فضاء حر

العرب أكثر الشعوب حاجة لمسيرات تحت شعار الجمهورية

يمنات
في إطار مسيرة الجمهورية الفرنسية يمكن قراءة المشهد من زاوية أوسع في الدلالات والرؤية.. فلا أحد ينكر الحادث (الهجوم على مقر الصحيفة)، ولكن لا أحد ينكر أن «القاعدة» والتكفيريين وكثيرا من الجماعات المتطرفة منها «داعش» جميعها صناعة غربية وأمريكية على وجه التحديد، وإن استندت إلى أساس ثقافي وفقهي تم انتاجه في عصور الظلام العربية، أو من خلال فقهاء النفط وهم كثيرون.
فالغرب عامة وأمريكا منذ أن انهار الاتحاد السوفييتي، وهم قلقون من غياب عدو كبير يعلقون عليه كثيرا من استراتيجياتهم الأمنية والعسكرية، التي ترتبط ببؤر النزاع، من أجل تزايد مبيعات الأسلحة والوجود العسكري المباشر وغير المباشر، وزرع فكرة التهديد للمجتمع الغربي كأيقونة في الثقافة السائدة، من أجل استمرار دافعي الضرائب في سخائهم، ومن دون مناقشة لكيفية الانفاق العسكري والامني ومبرراته.
تم قتل جون كيندي في ستينات القرن الماضي لأنه اراد إخماد كثير من بؤر النزاع الاقليمية والدولية بدءا من فيتنام، وللأسف العرب (الحكام والحكومات) انساقوا وراء المشروع الامريكي والبريطاني، أوئل القرن العشرين في حملات وتجييش لصالح لورانس العرب ضد الأتراك، بهدف الحصول على الاستقلال الذي لم يأت وجاء بدلا عنه استعمار غربي سلم فلسطين لليهود، ثم تأسيس جامعة عربية مشلولة القدرة والكفاءة والفاعلية، ثم الدخول في صراع جمهوري ملكي (تقدمي رجعي) وفي إطارها كان الغرب يساعد ويرقب عن كثب نشوء جماعات اسلامية تربوية في النشأة ثم عسكرية وعنيفة في مسارات لاحقة، ضمن طموحها للاستملاك السياسي للدولة وصولا الى تأسيس تنظيم «القاعدة» لمحاربة الاتحاد السوفييتي.
وببلاهة شديدة دفع العرب أبناءهم ونفطهم في معركة كانوا الخاسرين فيها من البداية، ولم يكن لهم هدف، بل لم يكن لهم ناقة ولا جمل في الحرب الامريكية السوفييتية داخل افغانستان.. لكن الامريكان والغرب وظفوا اصدقاءهم العرب مستفيدين من غبائهم ونفطهم ليديروا معارك متعددة، وظهرت الفتاوى بالجهاد وقدمت التسهيلات اللوجستية، وما ان انتهت المعركة حتى تخلت امريكا عن كثير من اعضاء التنظيم وغيره من التنظيمات الاخرى، واحتفظت بعلاقات قوية مع قيادات وجماعات طلبت منها الهدوء والكمون لبعض الوقت حتى إشعار آخر..
رجع الأفغان العرب لينشروا عنفا داخل بلدانهم، حتى جاءت أحداث سبتمبر الشهيرة التي لن يتخلى عنها الغرب ولن تنساها امريكا بسهولة، بل ستراكم الاحداث معها وفي إطارها، ومن هنا نفهم مسيرة الجمهورية الباريسية، حيث جرى تضخيم إعلامي وسياسي للهجوم على الصحيفة، وقتل عشرة أفراد، مع أن الامريكان قتل لهم في اليمن اكثر من عشرين وكانت ردود فعلهم غير مقبولة اعلاميا وسياسيا داخل مجتمعهم.
ومعنى ذلك فالمخابرات الغربية الامريكية خصوصا- وهي تتخلص من بعض من جندهم بطريقة يكون غيابهم (قتلهم) له مردود إيجابي للغرب، في معركة سياسية وأمنية يراد لها أن تبقى مشتعلة ضد الإرهاب الذي لم يحدد تعريفه وهدفه الحقيقي.
وللعلم فإن الكثير من اعضاء تنظيم “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” وغيرها هم من مواليد المجتمع الغربي، وتعلموا هناك ويجيدون أكثر من لغة وأكثر من مهنة، بعضها تقني وإلكتروني، فكيف بهؤلاء وهم ناجحون في دراساتهم واعمالهم المهنية، ان ينساقوا الى تنظيمات عنيفة تمارس عبثا سياسيا، إن لم تكن المخابرات الغربية والامريكية وراء تجنيد هؤلاء الباحثين عن البطولات وعن المال، وهم في حالة فراغ فكري وثقافي، يتم ملؤه بثقافة جديدة من إنتاج الامريكان واتباعهم في الشرق الاوسط، عبر فتاوى تكفيرية وكتب أصولية لا علاقة لها بصحيح الدين وتاريخه الحضاري..
ومثلما يتفنن الامريكان في تدجين الحكام والحكومات والاحزاب العربية ودفعهم للاصطفاف في المشروع الامريكي الغربي، تتفنن أجهزتهم الاستخباراتية في انتقاء أفراد من كلا الجنسين ليشكلوا كتائب جهادية يتم زرعها في اكثر من مكان، ويكون التدريب والتجهيز في الغرب ضمن فضاء الحريات للمسلمين والمهاجرين.. وهنا لن تحارب فرنسا ولا أمريكا الإرهاب ولا «داعش» ولا «القاعدة» قبل ان تجد لها ويتشكل عدو اخر يمكن قبوله مجتمعيا من خلال الإعلام، وجعل الناخب والمواطن الغربي يصدق انه عدو للغرب ولأسلوب الحياة الامريكية.
قبل ذلك ستستمر التنظيمات الجهادية في عبثها الامني والسياسي والتخريبي، وستساعدها وتنشأ مقابلها جماعات مذهبية وطائفية بحجة مواجهتها وجميعها تلعب دورا في تدمير الدولة العربية ومجتمعها والعودة به الى بداياته في البداوة والقبيلة وما قبل الاستقلال الأول، الذي توهمنا انه حصل في منتصف القرن الماضي.
في هذا السياق يمكن القول إن العرب اليمن خصوصا اكثر شعوب العالم بحاجة لهذه المسيرة، مسيرة الجمهورية. فاليمن بكل تاريخه الحديث المعاصر واهداف نضاله في الجمهورية ونظامها وقيمها وشهدائها، ووحدة البلاد في مهب الريح، ومع ذلك لا نجد مظاهرة واحدة حقيقية تحت شعارات تعكس تطلعات المجتمع ونضاله… فالمظاهرات التي نراها بين الحين والآخر لا تزيد على المئات يتم تصويرها بالمليونيات وفقا لثقافة (أم المعارك).. فالشأن اليمني جد خطير ومسيرة مليونية واحدة تحت شعار الجمهورية والمدنية والديمقراطية، أهم بكثير من الاحزاب البائسة في قياداتها، التي لم تعد محل احترام المجتمع، ناهيك عن قواعدها الحزبية وهي مثلها مثل الحكومة والرئاسة.. لا يثق بها المجتمع ولا يحترمها.. ووحده هذا الشعار الجمهورية والمدنية- من سيعيد الالتحام الى صفوف الشعب، لأنه تعبير عن وطن ونظام يجسدان دولة المواطنة ووفاء للشهداء وتقديرا لمستقبل افضل يليق باليمنيين ليعيشوا ضمن عالم متحضر تحت راية الجمهورية والمدنية، بعيدا عن منطق البداوة والقبيلة والتطرف والمذهبية.. فهل تدرك القوى الوطنية هذا الامر وتتحفز لهذه المسيرة التي ستعيد تشكيل الأولويات والاجندة السياسية، بل وتشكيلات القوى والخريطة السياسية.. انه تحد للقوى الوطنية والمدنية لتكون حاضرة وفاعلة وذات صوت مسموع أو لتبقى مدجنة وتابعة الى الأبد..
٭ استاذ علم الاجتماع السياسي اليمن
عن: القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى